الديمقراطية في مهب الريح- صعود الراديكالية وتحديات ألمانيا

المؤلف: د. مروان الغفوري10.10.2025
الديمقراطية في مهب الريح- صعود الراديكالية وتحديات ألمانيا

تقبع ولاية تورينغن في قلب شرق ألمانيا، حيث يقطنها ما يربو على مليوني نسمة. ووفقًا لإحصائيات مكتب الإحصاء الحكومي، تستضيف الولاية ما لا يتجاوز 2.7% من مجمل اللاجئين المتواجدين في أرجاء ألمانيا. يشكل الأوكرانيون نسبة تقارب الـ 60% من هذا العدد. وبشكل عام، فإن أقل من عُشر سكان الولاية هم من ذوي الأصول الأجنبية، يشكل القادمون من دول شرق أوروبا ثلث هذه النسبة على الأقل. أما اللاجئون السوريون، فيمثلون حوالي واحدًا في المائة فقط من إجمالي عدد السكان في هذه الولاية التي تمتد على مساحة 16 ألف كيلومتر مربع.

في الماضي، كانت هذه الولاية جزءًا لا يتجزأ من ألمانيا الشرقية. وبعد مرور ما يزيد عن ثلاثة عقود على مسيرة التحول الديمقراطي التي قادها مواطنوها، والجهود المضنية لدمج شرق ألمانيا في النسيج الديمقراطي الليبرالي، تظهر الولاية الشرقية اليوم ميلاً متزايدًا نحو التيارات الراديكالية غير الديمقراطية، وتنحرف عن القيم الأخلاقية التي تقوم عليها الديمقراطية، وفي مقدمتها التنوع والتسامح.

الانتخابات المحلية التي جرت مؤخرًا في تورينغن لانتخاب أعضاء برلمان الولاية المكون من 88 مقعدًا، أسفرت عن فوز الأحزاب الراديكالية، سواء من أقصى اليمين أو أقصى اليسار، بـ 59 مقعدًا (أي ما يعادل 67%). وفي المقابل، فشل حزبان من الائتلاف الثلاثي الحاكم في ألمانيا – وهما حزب الخضر والحزب الديمقراطي الليبرالي – في تجاوز الحاجز الانتخابي.

أما حزب المستشار الألماني الحالي، فقد تذيّل القائمة بحصوله على 6 مقاعد فقط. وفي ولاية ساكسونيا المجاورة، التي يزيد عدد سكانها عن ضعف عدد سكان تورينغن، تخطت حصة الأحزاب المتطرفة حاجز الخمسين بالمائة. وتشير استطلاعات الرأي في ولاية براندنبورغ المحيطة ببرلين إلى نتائج مماثلة لصالح الراديكاليين.

لا يزال هناك خط فاصل جلي يقسم ألمانيا إلى شطرين، شرقي وغربي، خاصة فيما يتعلق بالموقف من الديمقراطية الليبرالية، وكذلك الموقف من فكرتي أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو). يبدو أن الألمان في الشرق يفضلون نموذجًا للديمقراطية غير الليبرالية، أو ما يُعرف في العلوم السياسية بالديمقراطية الهجينة، وهي مزيج من السلطوية والمؤسسات التمثيلية.

تستمد هذه التوجهات الراديكالية قوتها من مسألة الهوية، حيث يدور الحديث حول ما يسميه تيو سارازين، في كتابه "ألمانيا على سكة مائلة"، بالتدهور الثقافي. ففي بلد ينتمي ربع سكانه إلى أصول أجنبية، كما تشير البيانات الرسمية، يختار الراديكاليون عرقًا واحدًا أو ثقافة واحدة لتشويهها وتحميلها مسؤولية كل المشاكل.

فالسوريون، الذين يشكلون أقل من 1% من إجمالي عدد السكان في ولاية تورينغن، أصبحوا يُصوَّرون كتهديد وجودي للأخلاق والثقافة المسيحية في الولاية. وعلى الرغم من تأكيدات وزارة الداخلية على أن 23 من أصل 28 هجومًا على المعابد اليهودية في ألمانيا تم تنفيذها من قبل متطرفين يمينيين ويساريين، وأن النسبة المتبقية قيد التحقيق، إلا أن الحقائق يتم التلاعب بها في سياق الحديث العام عن معاداة السامية "المستوردة" أو القادمة من الشرق الأقصى.

هذا الخطاب الملطف يعطي انطباعًا زائفًا عن هوية أولئك الذين يهاجمون المؤسسات الدينية اليهودية. لطالما كانت معاداة السامية إحدى الركائز الأخلاقية التي استند إليها اليمين الراديكالي في خطابه المعادي للمسلمين. وقد لاحظت توني موريسون، الروائية الأمريكية الشهيرة، كيف أن الفاشية تمهد طريقها من خلال شيطنة فئة معينة من السكان وعزلها، ثم تحميلها مسؤولية كل ما يحدث في البلاد.

في عام 1938، نشرت كاتدرائية تورينغن كتيبًا صغيرًا يضم أكثر من مائة اقتباس من كتاب "عن اليهود وأكاذيبهم" للمصلح الديني الألماني الشهير مارتن لوثر، وهو عبارة عن سفر ضخم يتألف من حوالي 60 ألف كلمة ألفه لوثر قبل وفاته بثلاث سنوات.

يُعتبر كتاب لوثر أخطر وأشنع وثيقة معادية لليهودية في التاريخ. فهو يصف اليهود بأنهم "ذرية الشيطان" الذين يجب ضربهم وإراقة دمائهم في الشوارع والحقول. وفي عام 2017، احتفلت ألمانيا بالذكرى الخمسمائة للإصلاح اللوثري، فقام الراديكاليون في ولاية تورينغن والولايات الشرقية المجاورة بتوزيع ملصقات تحمل صور مارتن لوثر وعبارات تقول: "على العهد ماضون".

في ذلك السياق التاريخي، فُهمت تلك الإشارة على أنها تهديد مبطن لليهود. الأمر الذي استدعى إصدار 42 مؤسسة ثقافية واجتماعية يهودية-ألمانية بيانًا مشتركًا بعنوان: "البديل لألمانيا ليس هو بديلًا لليهود". ثمة جذور تاريخية واجتماعية عميقة تمنح السياسة في شرق ألمانيا شكلها الحالي. وكعادة الأنظمة الفاشية، فإنها تهرب من حقيقتها إلى ما يسميه ترامب "الحقائق البديلة". وهكذا يبدأ تاريخ العنف بوصول أول لاجئ إلى البلاد.

تتعقد ديناميكيات السياسة في ألمانيا في ظل مناخ عام من الصدمات المتتالية منذ عام 2020، كما يوضح مارتن ديبيس في كتابه "ديمقراطية تحت الصدمة". في عام 2020، وفي ولاية تورينغن أيضًا، وجدت الأحزاب السياسية نفسها مضطرة، وفقًا للنتائج، إلى اختيار يساري راديكالي رئيسًا لحكومة الولاية. وانضم حزب البديل من أجل ألمانيا، اليميني الراديكالي، إلى الإجماع السياسي في مشهد غير مسبوق من تطبيع الراديكالية داخل بنية الحياة السياسية الألمانية، أو ما يسميه مارتن ديبيس "الأزمة السياسية الأخطر منذ انهيار جدار برلين".

تشير استطلاعات الرأي إلى أن الراديكاليين، من اليمين واليسار، سيحصدون ما يقارب نصف مقاعد برلمان ولاية براندنبورغ المحيطة ببرلين في الانتخابات القادمة هذا الشهر. ولاية شرقية أخرى، وتحول جديد في مسار السياسة الألمانية. يتساءل الألمان عما يحدث في شرق البلاد. إذ كشفت دراسة أجرتها مؤسسة فريدريش إيبرت عام 2023 أن نسبة عدم الرضا النسبي والمطلق عن الديمقراطية بلغت 67% في شرق ألمانيا. وحاول المؤرخ المعروف كوفالشوك تفكيك هذا الإشكال إلى عناصره الأولية من خلال العودة إلى حقبة الحرب الباردة لاستكشاف التصورات والتخيلات التي تشكلت لدى مجتمع شرق ألمانيا عن ديمقراطية الغرب.

يجادل كوفالشوك في كتابه "صدمة الحرية" بأن أحلام الرخاء في "الغرب الذهبي" كانت الدافع الأكبر وراء ثورة الحرية التي قام بها مواطنو ألمانيا الشرقية في الفترة 1989/1990. ويؤكد كوفالشوك أن فكرتي الحرية والديمقراطية غالبًا ما تنطويان على قدر من الحقائق الزائفة أو الوعود الخادعة. وفي محاولته لفهم ما يجري، يتفق كوفالشوك مع ما لاحظه نقاد الديمقراطية في العقدين الماضيين، وهو أن أحد أهم أسباب الاستياء الشعبي من الديمقراطية هو ذاك المزيج السام من الدعاية السياسية والظروف الاقتصادية. فالساسة يوزعون الوعود بالمساواة، والاقتصاد يوزع التفاوت.

يبقى واردًا دومًا أن تجلب الديمقراطية معها بذور فنائها، وفي أفضل السيناريوهات عدم استقرارها. لم يكن وصول هتلر إلى السلطة مجرد صدفة سياسية، بل كان نتيجة حتمية لفشل الديمقراطية في تحقيق الاستقرار. ففي غضون أسابيع قليلة، عجز ثلاثة من كبار السياسيين الألمان عن تشكيل حكومة بسبب الانقسامات السياسية داخل البرلمان.

رأت النخبة الحاكمة في هتلر حلاً مؤقتًا لوضع حد للفوضى السياسية، معتقدة أنه سيتم دفعه إلى الزاوية لاحقًا. إلا أن هتلر أنهى ديمقراطية فايمر وقاد البلاد إلى الهاوية. وبالمثل، فعل ملك إيطاليا في أكتوبر 1922 مع موسوليني، الذي لم يحصل حزبه إلا على 6% من مقاعد البرلمان. وبسبب حالة الشلل التي أنتجتها الديمقراطية الراديكالية، قررت النخبة الحاكمة الاستعانة برجل من "بلطجية السياسة" لإخماد فوضى البرلمان، الأمر الذي أدى إلى كارثة حلت بالبلاد بأسرها.

في القرن الماضي، أُطيح بالعديد من الأنظمة الديمقراطية عن طريق انقلابات عسكرية، أما في القرن الجديد، نشهد انهيارًا للديمقراطيات من الداخل. فقد تراجعت أكثر من 30 دولة ديمقراطية ناشئة في السنوات الأخيرة، وفقًا لمنظمة فريدوم هاوس. لقد ارتكبت الدعاية الديمقراطية خطأً قاتلاً عندما ربطت بين الحرية والرخاء الاقتصادي.

إن الفرضية القائلة بأن الحرية السياسية هي الطريق الأكيد إلى دولة الرفاه تدحضها الحقائق القاسية، حيث يقر 50 في المائة من الأمريكيين بأنهم يكافحون من أجل تأمين قوت يومهم. بينما تشير بيانات أخرى إلى أن الصين "ذات النظام السلطوي" نجحت في انتشال نصف مليار شخص من براثن الفقر وإلحاقهم بالطبقة الوسطى خلال ربع قرن من الزمان.

لقد خدع "نداء حوريات البحر" شعوبًا عديدة انضمت إلى ما أسماه هنتنغتون "الموجة الثالثة من الديمقراطية". فعندما استسلم أوديسيوس ورفاقه، في ملحمة هوميروس الشهيرة، لنداء الحوريات وتبعوهن، ضلوا الطريق لمدة عشرين عامًا. كان من المتوقع أن ينتقل العالم من الموجة الثالثة للديمقراطية إلى الرابعة، غير أن الحديث سرعان ما تحول إلى صعود الموجة الثالثة من الأنظمة السلطوية، فضلاً عن انخفاض حاد في مستوى الديمقراطية في "العالم الحر"، وانحسار الموجة الثالثة.

لقد وضعت أمريكا على عاتقها مهمة نشر الديمقراطية في العالم الثالث، أو ما يسمى بالجنوب العالمي، ومنحت نفسها لقب "قائد العالم الحر". إلى أن اضطرت مؤخرًا إلى الاهتمام بشؤونها الديمقراطية الداخلية المتدهورة. فالدولة التي تتواجد في 95% من بحار العالم وتفرض عقوبات اقتصادية على ستين دولة، بحسب تقرير مثير للجدل نشرته صحيفة واشنطن بوست، من غير المرجح أن تكون سياستها الخارجية نابعة من قوة ديمقراطية أخلاقية.

في لائحته الداخلية لعام 2016، وكذلك في برنامجه الانتخابي لعام 2024، يطالب حزب البديل من أجل ألمانيا الراديكالي بطرد القوات الأمريكية من الأراضي الألمانية، لأن "مصالح أمريكا تتعارض تمامًا مع المصالح الألمانية"، على حد تعبير أليس فايدل، زعيمة الحزب. إن صعود اليمين المتطرف يهدد كل ما استقر عليه الغرب منذ الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك الديمقراطية نفسها، وتلك الفكرة المبهمة عن وحدة وتماسك "العالم الحر".

ثمة أزمة متعددة الأوجه تضرب مراكز الديمقراطية، ويعلم طلاب التاريخ أن ظاهرتي موسوليني وهتلر قد نشأتا من داخل الديمقراطية وليس من خارجها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة